الجزء الحادي عشر من تفسير سورة البقرة
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة البقرة
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الحادي عشر من تفسير سورة البقرة
وَإِذْ
نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ
بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
يقول تعالى واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم (إِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي:
خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة
موسى، عليه السلام، وقد كانوا يسومونكم، أي: يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم
سوء العذاب. وذلك أن فرعون -لعنه الله-كان قد رأى رؤيا هالته، رأى نارا
خرجت من بيت المقدس فدخلت دور القبط ببلاد مصر، إلا بيوت بني إسرائيل،
مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل، ويقال: بل تحدث
سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم، يكون لهم به دولة
ورفعة، وهكذا جاء في حديث الفُتُون، كما سيأتي في موضعه [في سورة طه] إن شاء الله، فعند ذلك أمر فرعون -لعنه الله-بقتل كل [ذي] ذَكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل، وأن تترك البنات، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأراذلها.
وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء، وفي سورة إبراهيم عطف عليه، كما قال: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [إبراهيم : 6] وسيأتي تفصيل ذلك في أول سورة القصص، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة والمعونة والتأييد.
ومعنى ( يَسُومُونَكُمْ ) أي: يولونكم، قاله أبو عبيدة، كما يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها، قال عمرو بن كلثوم:
وقيل: معناه: يديمون عذابكم، كما يقال: سائمة الغنم من إدامتها الرعي،
نقله القرطبي، وإنما قال هاهنا: ( يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله: (
يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ) ثم فسره بهذا لقوله هاهنا اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وأما في سورة إبراهيم فلما قال: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم:5] ، أي: بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي.
وفرعون علم على كل مَنْ مَلَكَ مصر، كافرًا من العماليق
وغيرهم، كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرًا، وكذلك كسرى
لكل من ملك الفرس، وتُبَّع لمن ملك اليمن كافرا [والنجاشي لمن ملك الحبشة،
وبطليموس لمن ملك الهند]
ويقال: كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى، عليه السلام، الوليد بن مصعب
بن الريان، وقيل: مصعب بن الريان، أيا ما كان فعليه لعنة الله، [وكان من
سلالة عمليق بن داود بن إرم بن سام بن نوح، وكنيته أبو مرة، وأصله فارسي من
استخر] .
وقوله تعالى: ( وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) قال ابن
جرير: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا إياكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون
بلاء لكم من ربكم عظيم. أي: نعمة عظيمة عليكم في ذلك .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس [في]
قوله: ( بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) قال: نعمة. وقال مجاهد: ( بَلاءٌ
مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) قال: نعمة من ربكم عظيمة. وكذا قال أبو العالية،
وأبو مالك، والسدي، وغيرهم.
وأصل البلاء: الاختبار، وقد يكون بالخير والشر، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] ، وقال: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ [الأعراف: 168].
قال ابن جرير: وأكثر ما يقال في الشر: بلوته أبلوه بَلاءً، وفي الخير: أبليه إبلاء وبلاء، قال زهير بن أبي سلمى:
قال: فجمع بين اللغتين؛ لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يَخْتَبر بها عباده.
[وقيل: المراد بقوله: ( وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ ) إشارة إلى ما كانوا فيه
من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء؛ قال القرطبي: وهذا قول
الجمهور ولفظه بعدما حكى القول الأول، ثم قال: وقال الجمهور: الإشارة إلى
الذبح ونحوه، والبلاء هاهنا في الشر، والمعنى في الذبح مكروه وامتحان] .
وقوله تعالى: ( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ
وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) معناه: وبعد أن
أنقذناكم من آل فرعون، وخرجتم مع موسى، عليه السلام، خرج فرعون في طلبكم، ففرقنا بكم البحر، كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلا كما سيأتي في مواضعه ومن أبسطها في سورة الشعراء إن شاء الله.
( فَأَنْجَيْنَاكُمْ ) أي: خلصناكم منهم، وحجزنا بينكم وبينهم،
وأغرقناهم وأنتم تنظرون؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم، وأبلغ في إهانة عدوكم.
قال
عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمر، عن أبي إسحاق الهَمْداني، عن عمرو بن ميمون
الأودي في قوله تعالى: ( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ) إلى قوله: (
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) قال: لما خرج موسى ببني إسرائيل، بلغ ذلك فرعون
فقال: لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة. قال: فوالله ما صاح ليلتئذ ديك
حتى أصبحوا؛ فدعا بشاة فَذُبحت، ثم قال: لا
أفرغ من كبدها حتى يجتمع إليَّ ستمائة ألف من القبط. فلم يفرغ من كبدها حتى
اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط ثم سار، فلما أتى موسى البحر، قال له رجل
من أصحابه، يقال له: يوشع بن نون: أين أمَرَ ربك؟ قال: أمامك، يشير إلى
البحر. فأقحم يوشع فرسَه في البحر حتى بلغ الغَمْرَ، فذهب به الغمر، ثم
رجع. فقال: أين أمَرَ ربك يا موسى؟ فوالله ما كذبت وما كُذبت . فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أوحى الله إلى موسى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فضربه فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ
[الشعراء : 63 ] ، يقول: مثل الجبل. ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في
طريقهم، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم فلذلك قال: ( وَأَغْرَقْنَا
آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) .
وكذلك قال غير واحد من السلف، كما سيأتي بيانه في موضعه . وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا عفان، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن عبد الله بن سعيد بن
جبير، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال: "ما هذا اليوم الذي
تصومون؟". قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل
من عدوهم
، فصامه موسى، عليه السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أحق
بموسى منكم". فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصومه.
وروى هذا الحديث البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه من طرق، عن أيوب السختياني، به نحو ما تقدم.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو الربيع، حدثنا سلام -يعني ابن سليم-عن
زيد العَمِّيّ عن يزيد الرقاشي عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء " .
وهذا ضعيف من هذا الوجه فإن زيدا العَمِّيّ فيه ضعف، وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه.
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم، لَمَّا عبدتم العجل بعد
ذهاب موسى لميقات ربه، عند انقضاء أمَد المواعدة، وكانت أربعين يومًا، وهي
المذكورة في الأعراف، في قوله تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [الأعراف: 142] قيل: إنها ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة، وكان ذلك بعد خلاصهم من قوم فرعون وإنجائهم من البحر.
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
وقوله: ( وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ) يعني: التوراة (
وَالْفُرْقَانَ ) وهو ما يَفْرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال (
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) وكان ذلك -أيضا-بعد خروجهم من البحر، كما دل
عليه سياق الكلام في سورة الأعراف. ولقوله تعالى: وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ
الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ [القصص: 43].
وقيل: الواو زائدة، والمعنى: ولقد آتينا موسى الكتاب والفرقان وهذا غريب، وقيل: عطف عليه وإن كان المعنى واحدًا، كما في قول الشاعر:
وقال الآخر:
فالكذب هو المين، والنأي: هو البعد. وقال عنترة:
فعطف الإقفار على الإقواء وهو هو.
وَإِذْ
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ
عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) .
هذه صفَةُ توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل، قال الحسن
البصري، رحمه الله، في قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا
قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ )
فقال: ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع حين قال الله
تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا الآية [الأعراف : 149] .
قال: فذلك حين يقول موسى: ( يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ )
وقال أبو العالية، وسعيد بن جبير، والربيع بن أنس: ( فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ) أي إلى خالقكم.
قلت: وفي قوله هاهنا: ( إِلَى بَارِئِكُمْ ) تنبيه على عظم جرمهم، أي: فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره.
وروى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث يزيد بن هارون، عن
الأصبغ بن زيد الوراق عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن
عباس، قال: قال الله تعالى: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كل من لقي من ولد ووالد
فيقتله بالسيف، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن. فتاب أولئك الذين كانوا
خفي على موسى وهارون ما اطلع الله من ذنوبهم، فاعترفوا بها، وفعلوا ما
أمروا به فغفر الله تعالى للقاتل والمقتول. وهذا قطعة من حديث الفُتُون، وسيأتي في تفسير سورة طه بكماله، إن شاء الله .
وقال ابن جرير: حدثني عبد الكريم بن الهيثم، حدثنا إبراهيم بن بَشَّار،
حدثنا سفيان بن عيينة، قال: قال أبو سعيد: عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال
موسى لقومه: ( فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ
هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) قال: أمر موسى قومه -من أمر ربه عز وجل -أن
يقتلوا أنفسهم قال: واحتبى الذين عبدوا العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل، فأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظُلَّة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضا، فانجلت الظلَّة عنهم، وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة.
وقال ابن جُرَيْج: أخبرني القاسم بن أبي بَزَّة أنه سمع سعيد بن جبير
ومجاهدًا يقولان في قوله تعالى: ( فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) قالا قام
بعضهم إلى بعض بالخناجر فقتل بعضهم بعضًا، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد،
حتى ألوى موسى بثوبه، فطرحوا ما بأيديهم، فكُشِفَ عن سبعين ألف قتيل. وإن
الله أوحى إلى موسى: أن حَسْبي، فقد اكتفيت، فذلك حين ألوى موسى بثوبه،
[وروي عن علي رضي الله عنه نحو ذلك] .
وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الأمر، فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل
بعضهم بعضا، حتى بلغ الله فيهم نقمته، فسقطت الشفار من أيديهم، فأمسك عنهم
القتل، فجعل لحيهم توبة، وللمقتول شهادة.
وقال الحسن البصري: أصابتهم ظلمة حنْدس، فقتل بعضهم بعضا [نقمة] ثم انكشف عنهم، فجعل توبتهم في ذلك.
وقال السدي في قوله: ( فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) قال: فاجتلد الذين
عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قُتِل من الفريقين شهيدًا، حتى
كثر القتل، حتى كادوا أن يهلكوا، حتى قتل بينهم سبعون ألفًا، وحتى دعا موسى وهارون: ربنا أهلكت بني إسرائيل، ربنا البقيةَ البقيةَ،
فأمرهم أن يضعوا السلاح وتاب عليهم، فكان من
قتل منهم من الفريقين شهيدًا، ومن بقي مُكَفّرا عنه؛ فذلك قوله: ( فَتَابَ
عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )
وقال الزهري: لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها، برزوا ومعهم موسى،
فاضطربوا بالسيوف، وتطاعنوا بالخناجر، وموسى رافع يديه، حتى إذا أفنوا
بعضهم
، قالوا: يا نبي الله، ادع الله لنا. وأخذوا بعضُديه يسندون يديه، فلم يزل
أمرهم على ذلك، حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم، بعضهم عن بعض، فألقوا
السلاح، وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم، فأوحى الله، جل
ثناؤه، إلى موسى: ما يحزنك؟ أما من قتل منكم فحي عندي يرزقون، وأما من بقي
فقد قبلت توبته. فسُرّ بذلك موسى، وبنو إسرائيل.
رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه.
وقال ابن إسحاق: لما رجع موسى إلى قومه، وأحرق العجل وذَرّاه في اليم،
خرج إلى ربه بمن اختار من قومه، فأخذتهم الصاعقة، ثم بُعثوا، فسأل موسى ربه
التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل. فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم قال:
فبلغني أنهم قالوا لموسى: نَصبر لأمر الله. فأمر موسى من لم يكن عبد العجل
أن يَقْتُل من عبده. فجلسوا بالأفنية وأصْلَتَ عليهم القومُ السيوف، فجعلوا
يقتلونهم، وبكى موسى، وَبَهَش إليه النساء والصبيان، يطلبون العفو عنهم،
فتاب الله عليهم، وعفا عنهم وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما رجع موسى إلى قومه، وكان سبعون رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه. فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربكم. فقالوا: يا موسى، ما من
توبة؟ قال: بلى، ( فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ
عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ) الآية، فاخترطوا السيوف والجرزَة
والخناجر والسكاكين. قال: وبعث عليهم ضبابة. قال: فجعلوا يتلامسون بالأيدي،
ويقتل بعضهم بعضًا. قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري. قال:
ويتنادون [فيها]
: رحم الله عبدا صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه، قال: فقتلاهم شهداء، وتيب
على أحيائهم، ثم قرأ: ( فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ )
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق، إذ سألتم رؤيتي جهرة عيانًا، مما لا يستطاع
لكم ولا لأمثالكم، كما قال ابن جريج، قال ابن عباس في هذه الآية: ( وَإِذْ
قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً )
قال: علانية.
وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق، عن أبي الحويرث، عن ابن
عباس، أنه قال في قول الله تعالى: ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى
اللَّهَ جَهْرَةً ) أي علانية، أي حتى نرى الله.
وقال قتادة، والربيع بن أنس: ( حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) أي عيانا.
وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا
معه. قال: فسمعوا كلاما، فقالوا: ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى
اللَّهَ جَهْرَةً ) قال: فسمعوا صوتًا فصعقوا، يقول: ماتوا.
وقال مروان بن الحكم، فيما خطب به على منبر مكة: الصاعقة: صيحة من السماء.
وقال السدي في قوله: ( فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ) الصاعقة: نار.
وقال عروة بن رويم في قوله: ( وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) قال: فصعق بعضهم وبعض ينظرون ، ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء.
وقال السدي: ( فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ) فماتوا، فقام موسى يبكي
ويدعو الله، ويقول: رب، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت
خيارهم لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا [الأعراف : 155]. فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجلٌ رجلٌ، ينظر بعضهم إلى بعض: كيف يحيون؟ قال: فذلك قوله تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )
وقال الربيع بن أنس: كان موتهم عقوبة لهم، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم. وكذا قال قتادة.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن حميد، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن
إسحاق، قال: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال
لأخيه وللسامري ما قال، وحَرّق العجل وذَرّاه في اليم، اختار موسى منهم
سبعين
رجلا الخَيِّرَ فالخير، وقال: انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم
وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم.
فخرج بهم إلى طور سيناء
لميقات وقَّتَه له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعِلْم، فقال له
السبعون، فيما ذكر لي، حين صنعوا ما أمروا به وخرجوا للقاء الله، قالوا: يا
موسى، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل. فلما دنا موسى من
الجبل، وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال
للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع،
لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا
فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل. فلما فرغ إليه من أمره
انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ
حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) فأخذتهم الرجفة ، وهي الصاعقة، فماتوا جميعًا. وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه، ويقول: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ [وَإِيَّايَ] [
الأعراف : 155] قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل
السفهاء منا؟ أي: إن هذا لهم هلاك. اخترتُ منهم سبعين رجلا الخَيِّر
فالخير، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد! فما الذي يصدقوني به ويأمنوني
عليه بعد هذا؟ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ
[الأعراف : 156] فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل، ويطلب إليه حتى ردّ إليهم
أرواحهم، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا؛ إلا أن
يقتلوا أنفسهم .
هذا سياق محمد بن إسحاق.
وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير: لما تابت بنو إسرائيل من
عبادة العجل وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به، أمر الله موسى
أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم
موسى، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عَينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا. وساق
البقية.
[وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله: ( وَإِذْ
قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً )
والمراد السبعون المختارون منهم، ولم يحك كثير من المفسرين سواه، وقد أغرب
فخر الدين الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين: أنهم بعد
إحيائهم قالوا: يا موسى، إنك لا تطلب من الله شيئا إلا أعطاك، فادعه أن
يجعلنا أنبياء، فدعا بذلك فأجاب الله دعوته، وهذا غريب جدا، إذ لا يعرف في
زمان موسى نبي سوى هارون ثم يوشع بن نون، وقد غلط أهل الكتاب أيضًا في
دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل، فإن موسى الكليم، عليه السلام، قد سأل
ذلك فمنع منه فكيف يناله هؤلاء السبعون؟
القول الثاني في الآية]
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية: قال لهم موسى -لما رجع
من عند ربه بالألواح، قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم
بقتل أنفسهم، ففعلوا، فتاب الله عليهم، فقال: إن هذه الألواح فيها كتاب
الله، فيه أمركم الذي أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى
يطلع الله علينا فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما
له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى! وقرأ قول الله: ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ
حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة
بعد التوبة، فصعقتهم فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم،
وقرأ قول الله: ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ ) فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا فقال: أي شيء
أصابكم؟ فقالوا: أصابنا أنا متنا ثم حَيِينا. قال : خذوا كتاب الله. قالوا: لا. فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم.
[وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا. وقد حكى الماوردي في ذلك
قولين: أحدهما: أنه سقط التكليف عنهم لمعاينتهم الأمر جهرة حتى صاروا
مضطرين إلى التصديق؛ والثاني: أنهم مكلفون لئلا يخلو عاقل من تكليف، قال
القرطبي: وهذا هو الصحيح لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم؛ لأن
بني إسرائيل قد شاهدوا أمورًا عظامًا من خوارق العادات، وهم في ذلك مكلفون
وهذا واضح، والله أعلم] .
وَظَلَّلْنَا
عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ
كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم، شرع يذكرهم -أيضا-بما أسبغ عليهم
من النعم، فقال: ( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ) وهو جمع غمامة،
سمي بذلك لأنه يَغُمّ السماء، أي: يواريها ويسترها. وهو السحاب الأبيض،
ظُلِّلوا به في التيه ليقيهم حر الشمس. كما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس
في حديث الفُتُون، قال: ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر، والربيع بن أنس، وأبي مجلز، والضحاك، والسدي، نحو قول ابن عباس.
وقال الحسن وقتادة: ( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ) [قال] كان هذا في البرية ظلل عليهم الغمام من الشمس.
وقال ابن جرير قال آخرون: وهو غمام أبرد من هذا، وأطيب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ) قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، ولم يكن إلا لهم.
وهكذا رواه ابن جرير، عن المثنى بن إبراهيم، عن أبي حذيفة.
وكذا رواه الثوري، وغيره، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وكأنه يريد، والله
أعلم، أنه ليس من زِيّ هذا السحاب، بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظرا، كما
قال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: (
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ) قال: غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو
الذي يأتي الله فيه في قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة : 210] وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. قال ابن عباس: وكان معهم في التيه.
وقوله: ( وَأَنـزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ ) اختلفت عبارات المفسرين في
المن: ما هو؟ فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: كان المن ينـزل عليهم
على الأشجار، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاؤوا.
وقال مجاهد: المن: صمغة. وقال عكرمة: المن: شيء أنـزله الله عليهم مثل الطل، شبه الرِّبِ الغليظ.
وقال السدي: قالوا: يا موسى، كيف لنا بما هاهنا؟ أين الطعام؟ فأنـزل الله عليهم المن، فكان يسقط على شجر الزنجبيل.
وقال قتادة: كان المن ينـزل عليهم في محلتهم
سقوط الثلج، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع
الفجر إلى طلوع الشمس، يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك؛ فإذا تعدى
ذلك فسد ولم يبق، حتى إذا كان يوم سادسه، ليوم جمعته، أخذ ما يكفيه ليوم
سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته ولا يطلبه
لشيء، وهذا كله في البرية.
وقال الربيع بن أنس: المن شراب كان ينـزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء ثم يشربونه.
وقال وهب بن منبه -وسئل عن المن-فقال: خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النَقيِّ.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا
إسرائيل، عن جابر، عن عامر وهو الشعبي، قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا
من المن.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنه العسل.
ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت، حيث قال:
فالناطف: هو السائل، والحليب المرمور: الصافي منه.
والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن، فمنهم من فسره بالطعام، ومنهم من فسره بالشراب، والظاهر، والله أعلم، أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب
، وغير ذلك، مما ليس لهم فيه عمل ولا كد، فالمن المشهور إن أكل وحده كان
طعاما وحلاوة، وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا، وإن ركب مع غيره صار نوعا
آخر، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده؛ والدليل على ذلك قول البخاري:
حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن عبد الملك، عن عمر بن حريث عن سعيد بن زيد، رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين".
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك، وهو ابن عمير، به .
وأخرجه الجماعة في كتبهم، إلا أبا داود، من طرق عن عبد الملك، وهو ابن عمير، به . وقال الترمذي: حسن صحيح، ورواه البخاري ومسلم والنسائي من رواية الحكم، عن الحسن العُرَني، عن عمرو بن حريث، به .
وقال الترمذي: حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن غَيْلان، قالا
حدثنا سعيد بن عامر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم،
والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين" .
تفرد بإخراجه الترمذي، ثم قال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن عمرو، وإلا من حديث سعيد بن عامر، عنه، وفي الباب عن سعيد بن زيد، وأبي سعيد وجابر.
كذا قال، وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره، من طريق آخر، عن أبي هريرة، فقال: حدثنا أحمد بن الحسن بن أحمد البصري، حدثنا أسلم بن سهل، حدثنا القاسم بن عيسى، حدثنا طلحة بن عبد الرحمن، عن قتادة عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين".
وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وطلحة بن عبد الرحمن هذا سلمي واسطي، يكنى بأبي
محمد، وقيل: أبو سليمان المؤدب قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي: روى عن قتادة أشياء لا يتابع عليها .
ثم قال [الترمذي]
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي، عن قتادة، عن شهر بن
حوشب، عن أبي هريرة: أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا:
الكمأة جدري الأرض، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن،
وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم".
وهذا الحديث قد رواه النسائي، عن محمد بن بشار، به . وعنه، عن غندر، عن شعبة، عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة، به . وعن محمد بن بشار، عن عبد الأعلى، عن خالد الحذاء، عن شهر بن حوشب. بقصة الكمأة فقط .
وروى النسائي -أيضا-وابن ماجه من حديث محمد بن بشار، عن أبي عبد الصمد
عبد العزيز بن عبد الصمد، عن مطر الوراق، عن شهر: بقصة العجوة عند النسائي،
وبالقصتين عند ابن ماجه .
وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة فإنه لم يسمعه منه، بدليل ما رواه النسائي في الوليمة من سننه، عن علي بن الحسين الدرهمي
عن عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد
الرحمن بن غَنْم، عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم
يذكرون الكمأة، وبعضهم يقول جدري الأرض، فقال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" .
وروي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن شهر بن حوشب، عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري، قالا قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم" .
قال
النسائي في الوليمة أيضا: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا
شعبة، عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد وجابر، رضي
الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" . ثم رواه -أيضا-، وابن ماجه من طرق، عن الأعمش، عن أبي بشر، عن شهر، عنهما، به .
وقد رويا -أعني النسائي وابن ماجه-من حديث سعيد بن مسلم كلاهما عن الأعمش، عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، زاد النسائي: [وحديث] جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" .
ورواه ابن مردويه، عن أحمد بن عثمان، عن عباس الدوري، عن لاحق بن صواب عن عمار بن رزيق عن الأعمش، كابن ماجه.
وقال ابن مردويه أيضا: حدثنا أحمد بن عثمان، حدثنا عباس الدوري، حدثنا الحسن
بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد
الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي سعيد الخدري، قال: خرج علينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم وفي يده كمآت، فقال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين".
وأخرجه النسائي، عن عمرو بن منصور، عن الحسن بن الربيع ثم [رواه] ابن مردويه. رواه أيضا عن عبد الله بن إسحاق عن الحسن بن سلام، عن عبيد الله بن موسى، عن شيبان عن الأعمش به، وكذا رواه النسائي عن أحمد بن عثمان بن حكيم، عن عبيد الله بن موسى [به] .
وقد روي من حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه كما قال ابن مردويه:
حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا حمدون بن أحمد، حدثنا حوثرة بن أشرس، حدثنا حماد، عن شعيب بن الحبحاب عن أنس: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تدارؤوا
في الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فقال بعضهم: نحسبه
الكمأة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن وماؤها شفاء
للعين، والعجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم" .
وهذا الحديث محفوظ أصله من رواية حماد بن سلمة. وقد روى الترمذي والنسائي من طريقه شيئاً من هذا، والله أعلم .
[وقد]
روي عن شهر، عن ابن عباس، كما رواه النسائي -أيضًا-في الوليمة، عن أبي بكر
أحمد بن علي بن سعيد، عن عبد الله بن عون الخَرّاز، عن أبي عبيدة الحداد،
عن عبد الجليل بن عطية، عن شهر، عن عبد الله بن عباس، عن النبيّ صلى الله
عليه وسلم قال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" .
فقد اختلف -كما ترى فيه-على شهر بن حوشب، ويحتمل عندي أنه حفظه ورواه من
هذه الطرق كلها، وقد سمعه من بعض الصحابة وبلغه عن بعضهم، فإن الأسانيد
إليه جيدة، وهو لا يتعمد الكذب، وأصل الحديث محفوظ عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، كما تقدم من رواية سعيد بن زيد.
وأما السلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: السلوى طائر شبيه بالسُّمَّانى، كانوا يأكلون منه.
وقال السدي في خَبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: السلوى: طائر يشبه السُّمَّانَى.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عبد الصمد بن
عبد الوارث، حدثنا قرّة بن خالد، عن جهضم، عن ابن عباس، قال: السلوى: هو
السمَّانى.
وكذا قال مجاهد، والشعبي، والضحاك، والحسن، وعكرمة، والربيع بن أنس، رحمهم الله.
وعن عكرمة: أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور، أو نحو ذلك.
وقال قتادة: السلوى من طير إلى الحمرة، تحشُرها عليهم الريحُ الجنَوبُ.
وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده،
حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه.
وقال وهب بن منبه: السلوى: طير سمين مثل الحمام، كان يأتيهم فيأخذون منه
من سبت إلى سبت. وفي رواية عن وهب، قال: سألَتْ بنو إسرائيل موسى عليه
السلام، اللحم، فقال الله: لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض، فأرسل عليهم
ريحًا، فأذرت عند مساكنهم السلوى، وهو السمانى مثل ميل في ميل قيدَ رمح إلى السماء فخبَّؤوا للغد فنتن اللحم وخنـز الخبز.
وقال السدي: لما دخل بنو إسرائيل التيه، قالوا لموسى، عليه السلام: كيف
لنا بما هاهنا؟ أين الطعام؟ فأنـزل الله عليهم الَمنّ فكان يسقط على الشجر
الزنجبيل، والسلوى وهو طائر يشبه السمانى أكبر منه، فكان يأتي أحدهم فينظر
إلى الطير، فإن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه، فقالوا: هذا
الطعام فأين الشراب؟ فَأُمِر موسى فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت
منه اثنتا عشرة عينًا، فشرب كل سبط من عين، فقالوا: هذا الشراب، فأين
الظل؟ فَظَلَّل عليهم الغمام. فقالوا: هذا الظل، فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم
تطول معهم كما يطول الصبيان، ولا يَنْخرق لهم ثوب، فذلك قوله تعالى: (
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنـزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوَى ) وقوله وَإِذِ
اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ
فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ
مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60].
وروي عن وهب بن منبه، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي.
وقال سُنَيْد، عن حجاج، عن ابن جُرَيْج، قال: قال ابن عباس: خُلق لهم في التيه ثياب لا تخرق
ولا تدرن، قال ابن جريج: فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم
فسد، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح
فاسدًا.
وقد غلط الهذلي في قوله: إنه العسل، وأنشد في ذلك م
نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ
بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
يقول تعالى واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم (إِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي:
خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة
موسى، عليه السلام، وقد كانوا يسومونكم، أي: يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم
سوء العذاب. وذلك أن فرعون -لعنه الله-كان قد رأى رؤيا هالته، رأى نارا
خرجت من بيت المقدس فدخلت دور القبط ببلاد مصر، إلا بيوت بني إسرائيل،
مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل، ويقال: بل تحدث
سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم، يكون لهم به دولة
ورفعة، وهكذا جاء في حديث الفُتُون، كما سيأتي في موضعه [في سورة طه] إن شاء الله، فعند ذلك أمر فرعون -لعنه الله-بقتل كل [ذي] ذَكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل، وأن تترك البنات، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأراذلها.
وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء، وفي سورة إبراهيم عطف عليه، كما قال: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [إبراهيم : 6] وسيأتي تفصيل ذلك في أول سورة القصص، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة والمعونة والتأييد.
ومعنى ( يَسُومُونَكُمْ ) أي: يولونكم، قاله أبو عبيدة، كما يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها، قال عمرو بن كلثوم:
إذا مـا الملـك سـام النـاس خسـفا | أبينــا أن نقــر الخســف فينــا |
نقله القرطبي، وإنما قال هاهنا: ( يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله: (
يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ) ثم فسره بهذا لقوله هاهنا اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وأما في سورة إبراهيم فلما قال: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم:5] ، أي: بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي.
وفرعون علم على كل مَنْ مَلَكَ مصر، كافرًا من العماليق
وغيرهم، كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرًا، وكذلك كسرى
لكل من ملك الفرس، وتُبَّع لمن ملك اليمن كافرا [والنجاشي لمن ملك الحبشة،
وبطليموس لمن ملك الهند]
ويقال: كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى، عليه السلام، الوليد بن مصعب
بن الريان، وقيل: مصعب بن الريان، أيا ما كان فعليه لعنة الله، [وكان من
سلالة عمليق بن داود بن إرم بن سام بن نوح، وكنيته أبو مرة، وأصله فارسي من
استخر] .
وقوله تعالى: ( وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) قال ابن
جرير: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا إياكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون
بلاء لكم من ربكم عظيم. أي: نعمة عظيمة عليكم في ذلك .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس [في]
قوله: ( بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) قال: نعمة. وقال مجاهد: ( بَلاءٌ
مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) قال: نعمة من ربكم عظيمة. وكذا قال أبو العالية،
وأبو مالك، والسدي، وغيرهم.
وأصل البلاء: الاختبار، وقد يكون بالخير والشر، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] ، وقال: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ [الأعراف: 168].
قال ابن جرير: وأكثر ما يقال في الشر: بلوته أبلوه بَلاءً، وفي الخير: أبليه إبلاء وبلاء، قال زهير بن أبي سلمى:
جـزى اللـه بالإحسـان مـا فَعَلا بكُم | وأبلاهمـا خَـيْرَ البـلاءِ الـذي يَبْلُـو |
[وقيل: المراد بقوله: ( وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ ) إشارة إلى ما كانوا فيه
من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء؛ قال القرطبي: وهذا قول
الجمهور ولفظه بعدما حكى القول الأول، ثم قال: وقال الجمهور: الإشارة إلى
الذبح ونحوه، والبلاء هاهنا في الشر، والمعنى في الذبح مكروه وامتحان] .
وقوله تعالى: ( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ
وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) معناه: وبعد أن
أنقذناكم من آل فرعون، وخرجتم مع موسى، عليه السلام، خرج فرعون في طلبكم، ففرقنا بكم البحر، كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلا كما سيأتي في مواضعه ومن أبسطها في سورة الشعراء إن شاء الله.
( فَأَنْجَيْنَاكُمْ ) أي: خلصناكم منهم، وحجزنا بينكم وبينهم،
وأغرقناهم وأنتم تنظرون؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم، وأبلغ في إهانة عدوكم.
قال
عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمر، عن أبي إسحاق الهَمْداني، عن عمرو بن ميمون
الأودي في قوله تعالى: ( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ) إلى قوله: (
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) قال: لما خرج موسى ببني إسرائيل، بلغ ذلك فرعون
فقال: لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة. قال: فوالله ما صاح ليلتئذ ديك
حتى أصبحوا؛ فدعا بشاة فَذُبحت، ثم قال: لا
أفرغ من كبدها حتى يجتمع إليَّ ستمائة ألف من القبط. فلم يفرغ من كبدها حتى
اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط ثم سار، فلما أتى موسى البحر، قال له رجل
من أصحابه، يقال له: يوشع بن نون: أين أمَرَ ربك؟ قال: أمامك، يشير إلى
البحر. فأقحم يوشع فرسَه في البحر حتى بلغ الغَمْرَ، فذهب به الغمر، ثم
رجع. فقال: أين أمَرَ ربك يا موسى؟ فوالله ما كذبت وما كُذبت . فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أوحى الله إلى موسى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فضربه فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ
[الشعراء : 63 ] ، يقول: مثل الجبل. ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في
طريقهم، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم فلذلك قال: ( وَأَغْرَقْنَا
آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) .
وكذلك قال غير واحد من السلف، كما سيأتي بيانه في موضعه . وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا عفان، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن عبد الله بن سعيد بن
جبير، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال: "ما هذا اليوم الذي
تصومون؟". قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل
من عدوهم
، فصامه موسى، عليه السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أحق
بموسى منكم". فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصومه.
وروى هذا الحديث البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه من طرق، عن أيوب السختياني، به نحو ما تقدم.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو الربيع، حدثنا سلام -يعني ابن سليم-عن
زيد العَمِّيّ عن يزيد الرقاشي عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء " .
وهذا ضعيف من هذا الوجه فإن زيدا العَمِّيّ فيه ضعف، وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه.
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم، لَمَّا عبدتم العجل بعد
ذهاب موسى لميقات ربه، عند انقضاء أمَد المواعدة، وكانت أربعين يومًا، وهي
المذكورة في الأعراف، في قوله تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [الأعراف: 142] قيل: إنها ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة، وكان ذلك بعد خلاصهم من قوم فرعون وإنجائهم من البحر.
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
وقوله: ( وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ) يعني: التوراة (
وَالْفُرْقَانَ ) وهو ما يَفْرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال (
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) وكان ذلك -أيضا-بعد خروجهم من البحر، كما دل
عليه سياق الكلام في سورة الأعراف. ولقوله تعالى: وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ
الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ [القصص: 43].
وقيل: الواو زائدة، والمعنى: ولقد آتينا موسى الكتاب والفرقان وهذا غريب، وقيل: عطف عليه وإن كان المعنى واحدًا، كما في قول الشاعر:
وقـــدمت الأديـــم لراقشـــيه | فـــألفى قولهــا كذبًــا ومينــا |
ألا حــبذا هنــد وأرض بهـا هنـد | وهنـد أتـى مـن دونهـا النأي والبعد |
حــييت مــن طلـل تقـادم عهـده | أقــوى وأقفــر بعــد أم الهيثــم |
وَإِذْ
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ
عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) .
هذه صفَةُ توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل، قال الحسن
البصري، رحمه الله، في قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا
قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ )
فقال: ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع حين قال الله
تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا الآية [الأعراف : 149] .
قال: فذلك حين يقول موسى: ( يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ )
وقال أبو العالية، وسعيد بن جبير، والربيع بن أنس: ( فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ) أي إلى خالقكم.
قلت: وفي قوله هاهنا: ( إِلَى بَارِئِكُمْ ) تنبيه على عظم جرمهم، أي: فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره.
وروى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث يزيد بن هارون، عن
الأصبغ بن زيد الوراق عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن
عباس، قال: قال الله تعالى: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كل من لقي من ولد ووالد
فيقتله بالسيف، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن. فتاب أولئك الذين كانوا
خفي على موسى وهارون ما اطلع الله من ذنوبهم، فاعترفوا بها، وفعلوا ما
أمروا به فغفر الله تعالى للقاتل والمقتول. وهذا قطعة من حديث الفُتُون، وسيأتي في تفسير سورة طه بكماله، إن شاء الله .
وقال ابن جرير: حدثني عبد الكريم بن الهيثم، حدثنا إبراهيم بن بَشَّار،
حدثنا سفيان بن عيينة، قال: قال أبو سعيد: عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال
موسى لقومه: ( فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ
هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) قال: أمر موسى قومه -من أمر ربه عز وجل -أن
يقتلوا أنفسهم قال: واحتبى الذين عبدوا العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل، فأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظُلَّة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضا، فانجلت الظلَّة عنهم، وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة.
وقال ابن جُرَيْج: أخبرني القاسم بن أبي بَزَّة أنه سمع سعيد بن جبير
ومجاهدًا يقولان في قوله تعالى: ( فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) قالا قام
بعضهم إلى بعض بالخناجر فقتل بعضهم بعضًا، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد،
حتى ألوى موسى بثوبه، فطرحوا ما بأيديهم، فكُشِفَ عن سبعين ألف قتيل. وإن
الله أوحى إلى موسى: أن حَسْبي، فقد اكتفيت، فذلك حين ألوى موسى بثوبه،
[وروي عن علي رضي الله عنه نحو ذلك] .
وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الأمر، فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل
بعضهم بعضا، حتى بلغ الله فيهم نقمته، فسقطت الشفار من أيديهم، فأمسك عنهم
القتل، فجعل لحيهم توبة، وللمقتول شهادة.
وقال الحسن البصري: أصابتهم ظلمة حنْدس، فقتل بعضهم بعضا [نقمة] ثم انكشف عنهم، فجعل توبتهم في ذلك.
وقال السدي في قوله: ( فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) قال: فاجتلد الذين
عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قُتِل من الفريقين شهيدًا، حتى
كثر القتل، حتى كادوا أن يهلكوا، حتى قتل بينهم سبعون ألفًا، وحتى دعا موسى وهارون: ربنا أهلكت بني إسرائيل، ربنا البقيةَ البقيةَ،
فأمرهم أن يضعوا السلاح وتاب عليهم، فكان من
قتل منهم من الفريقين شهيدًا، ومن بقي مُكَفّرا عنه؛ فذلك قوله: ( فَتَابَ
عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )
وقال الزهري: لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها، برزوا ومعهم موسى،
فاضطربوا بالسيوف، وتطاعنوا بالخناجر، وموسى رافع يديه، حتى إذا أفنوا
بعضهم
، قالوا: يا نبي الله، ادع الله لنا. وأخذوا بعضُديه يسندون يديه، فلم يزل
أمرهم على ذلك، حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم، بعضهم عن بعض، فألقوا
السلاح، وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم، فأوحى الله، جل
ثناؤه، إلى موسى: ما يحزنك؟ أما من قتل منكم فحي عندي يرزقون، وأما من بقي
فقد قبلت توبته. فسُرّ بذلك موسى، وبنو إسرائيل.
رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه.
وقال ابن إسحاق: لما رجع موسى إلى قومه، وأحرق العجل وذَرّاه في اليم،
خرج إلى ربه بمن اختار من قومه، فأخذتهم الصاعقة، ثم بُعثوا، فسأل موسى ربه
التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل. فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم قال:
فبلغني أنهم قالوا لموسى: نَصبر لأمر الله. فأمر موسى من لم يكن عبد العجل
أن يَقْتُل من عبده. فجلسوا بالأفنية وأصْلَتَ عليهم القومُ السيوف، فجعلوا
يقتلونهم، وبكى موسى، وَبَهَش إليه النساء والصبيان، يطلبون العفو عنهم،
فتاب الله عليهم، وعفا عنهم وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما رجع موسى إلى قومه، وكان سبعون رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه. فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربكم. فقالوا: يا موسى، ما من
توبة؟ قال: بلى، ( فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ
عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ) الآية، فاخترطوا السيوف والجرزَة
والخناجر والسكاكين. قال: وبعث عليهم ضبابة. قال: فجعلوا يتلامسون بالأيدي،
ويقتل بعضهم بعضًا. قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري. قال:
ويتنادون [فيها]
: رحم الله عبدا صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه، قال: فقتلاهم شهداء، وتيب
على أحيائهم، ثم قرأ: ( فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ )
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق، إذ سألتم رؤيتي جهرة عيانًا، مما لا يستطاع
لكم ولا لأمثالكم، كما قال ابن جريج، قال ابن عباس في هذه الآية: ( وَإِذْ
قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً )
قال: علانية.
وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق، عن أبي الحويرث، عن ابن
عباس، أنه قال في قول الله تعالى: ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى
اللَّهَ جَهْرَةً ) أي علانية، أي حتى نرى الله.
وقال قتادة، والربيع بن أنس: ( حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) أي عيانا.
وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا
معه. قال: فسمعوا كلاما، فقالوا: ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى
اللَّهَ جَهْرَةً ) قال: فسمعوا صوتًا فصعقوا، يقول: ماتوا.
وقال مروان بن الحكم، فيما خطب به على منبر مكة: الصاعقة: صيحة من السماء.
وقال السدي في قوله: ( فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ) الصاعقة: نار.
وقال عروة بن رويم في قوله: ( وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) قال: فصعق بعضهم وبعض ينظرون ، ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء.
وقال السدي: ( فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ) فماتوا، فقام موسى يبكي
ويدعو الله، ويقول: رب، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت
خيارهم لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا [الأعراف : 155]. فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجلٌ رجلٌ، ينظر بعضهم إلى بعض: كيف يحيون؟ قال: فذلك قوله تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )
وقال الربيع بن أنس: كان موتهم عقوبة لهم، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم. وكذا قال قتادة.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن حميد، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن
إسحاق، قال: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال
لأخيه وللسامري ما قال، وحَرّق العجل وذَرّاه في اليم، اختار موسى منهم
سبعين
رجلا الخَيِّرَ فالخير، وقال: انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم
وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم.
فخرج بهم إلى طور سيناء
لميقات وقَّتَه له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعِلْم، فقال له
السبعون، فيما ذكر لي، حين صنعوا ما أمروا به وخرجوا للقاء الله، قالوا: يا
موسى، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل. فلما دنا موسى من
الجبل، وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال
للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع،
لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا
فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل. فلما فرغ إليه من أمره
انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ
حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) فأخذتهم الرجفة ، وهي الصاعقة، فماتوا جميعًا. وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه، ويقول: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ [وَإِيَّايَ] [
الأعراف : 155] قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل
السفهاء منا؟ أي: إن هذا لهم هلاك. اخترتُ منهم سبعين رجلا الخَيِّر
فالخير، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد! فما الذي يصدقوني به ويأمنوني
عليه بعد هذا؟ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ
[الأعراف : 156] فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل، ويطلب إليه حتى ردّ إليهم
أرواحهم، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا؛ إلا أن
يقتلوا أنفسهم .
هذا سياق محمد بن إسحاق.
وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير: لما تابت بنو إسرائيل من
عبادة العجل وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به، أمر الله موسى
أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم
موسى، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عَينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا. وساق
البقية.
[وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله: ( وَإِذْ
قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً )
والمراد السبعون المختارون منهم، ولم يحك كثير من المفسرين سواه، وقد أغرب
فخر الدين الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين: أنهم بعد
إحيائهم قالوا: يا موسى، إنك لا تطلب من الله شيئا إلا أعطاك، فادعه أن
يجعلنا أنبياء، فدعا بذلك فأجاب الله دعوته، وهذا غريب جدا، إذ لا يعرف في
زمان موسى نبي سوى هارون ثم يوشع بن نون، وقد غلط أهل الكتاب أيضًا في
دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل، فإن موسى الكليم، عليه السلام، قد سأل
ذلك فمنع منه فكيف يناله هؤلاء السبعون؟
القول الثاني في الآية]
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية: قال لهم موسى -لما رجع
من عند ربه بالألواح، قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم
بقتل أنفسهم، ففعلوا، فتاب الله عليهم، فقال: إن هذه الألواح فيها كتاب
الله، فيه أمركم الذي أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى
يطلع الله علينا فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما
له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى! وقرأ قول الله: ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ
حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة
بعد التوبة، فصعقتهم فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم،
وقرأ قول الله: ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ ) فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا فقال: أي شيء
أصابكم؟ فقالوا: أصابنا أنا متنا ثم حَيِينا. قال : خذوا كتاب الله. قالوا: لا. فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم.
[وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا. وقد حكى الماوردي في ذلك
قولين: أحدهما: أنه سقط التكليف عنهم لمعاينتهم الأمر جهرة حتى صاروا
مضطرين إلى التصديق؛ والثاني: أنهم مكلفون لئلا يخلو عاقل من تكليف، قال
القرطبي: وهذا هو الصحيح لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم؛ لأن
بني إسرائيل قد شاهدوا أمورًا عظامًا من خوارق العادات، وهم في ذلك مكلفون
وهذا واضح، والله أعلم] .
وَظَلَّلْنَا
عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ
كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم، شرع يذكرهم -أيضا-بما أسبغ عليهم
من النعم، فقال: ( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ) وهو جمع غمامة،
سمي بذلك لأنه يَغُمّ السماء، أي: يواريها ويسترها. وهو السحاب الأبيض،
ظُلِّلوا به في التيه ليقيهم حر الشمس. كما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس
في حديث الفُتُون، قال: ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر، والربيع بن أنس، وأبي مجلز، والضحاك، والسدي، نحو قول ابن عباس.
وقال الحسن وقتادة: ( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ) [قال] كان هذا في البرية ظلل عليهم الغمام من الشمس.
وقال ابن جرير قال آخرون: وهو غمام أبرد من هذا، وأطيب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ) قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، ولم يكن إلا لهم.
وهكذا رواه ابن جرير، عن المثنى بن إبراهيم، عن أبي حذيفة.
وكذا رواه الثوري، وغيره، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وكأنه يريد، والله
أعلم، أنه ليس من زِيّ هذا السحاب، بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظرا، كما
قال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: (
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ) قال: غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو
الذي يأتي الله فيه في قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة : 210] وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. قال ابن عباس: وكان معهم في التيه.
وقوله: ( وَأَنـزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ ) اختلفت عبارات المفسرين في
المن: ما هو؟ فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: كان المن ينـزل عليهم
على الأشجار، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاؤوا.
وقال مجاهد: المن: صمغة. وقال عكرمة: المن: شيء أنـزله الله عليهم مثل الطل، شبه الرِّبِ الغليظ.
وقال السدي: قالوا: يا موسى، كيف لنا بما هاهنا؟ أين الطعام؟ فأنـزل الله عليهم المن، فكان يسقط على شجر الزنجبيل.
وقال قتادة: كان المن ينـزل عليهم في محلتهم
سقوط الثلج، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع
الفجر إلى طلوع الشمس، يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك؛ فإذا تعدى
ذلك فسد ولم يبق، حتى إذا كان يوم سادسه، ليوم جمعته، أخذ ما يكفيه ليوم
سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته ولا يطلبه
لشيء، وهذا كله في البرية.
وقال الربيع بن أنس: المن شراب كان ينـزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء ثم يشربونه.
وقال وهب بن منبه -وسئل عن المن-فقال: خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النَقيِّ.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا
إسرائيل، عن جابر، عن عامر وهو الشعبي، قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا
من المن.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنه العسل.
ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت، حيث قال:
فـــرأى اللــه أنهــم بمضيــع | لا بـــذي مــزرع ولا مثمــورا | |
فســـناها عليهـــم غاديـــات | وتــرى مــزنهم خلايـا وخـورا | |
عســلا ناطفــا ومــاء فراتــا | وحليبـــا ذا بهجـــة مرمــورا |
فالناطف: هو السائل، والحليب المرمور: الصافي منه.
والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن، فمنهم من فسره بالطعام، ومنهم من فسره بالشراب، والظاهر، والله أعلم، أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب
، وغير ذلك، مما ليس لهم فيه عمل ولا كد، فالمن المشهور إن أكل وحده كان
طعاما وحلاوة، وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا، وإن ركب مع غيره صار نوعا
آخر، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده؛ والدليل على ذلك قول البخاري:
حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن عبد الملك، عن عمر بن حريث عن سعيد بن زيد، رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين".
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك، وهو ابن عمير، به .
وأخرجه الجماعة في كتبهم، إلا أبا داود، من طرق عن عبد الملك، وهو ابن عمير، به . وقال الترمذي: حسن صحيح، ورواه البخاري ومسلم والنسائي من رواية الحكم، عن الحسن العُرَني، عن عمرو بن حريث، به .
وقال الترمذي: حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن غَيْلان، قالا
حدثنا سعيد بن عامر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم،
والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين" .
تفرد بإخراجه الترمذي، ثم قال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن عمرو، وإلا من حديث سعيد بن عامر، عنه، وفي الباب عن سعيد بن زيد، وأبي سعيد وجابر.
كذا قال، وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره، من طريق آخر، عن أبي هريرة، فقال: حدثنا أحمد بن الحسن بن أحمد البصري، حدثنا أسلم بن سهل، حدثنا القاسم بن عيسى، حدثنا طلحة بن عبد الرحمن، عن قتادة عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين".
وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وطلحة بن عبد الرحمن هذا سلمي واسطي، يكنى بأبي
محمد، وقيل: أبو سليمان المؤدب قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي: روى عن قتادة أشياء لا يتابع عليها .
ثم قال [الترمذي]
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي، عن قتادة، عن شهر بن
حوشب، عن أبي هريرة: أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا:
الكمأة جدري الأرض، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن،
وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم".
وهذا الحديث قد رواه النسائي، عن محمد بن بشار، به . وعنه، عن غندر، عن شعبة، عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة، به . وعن محمد بن بشار، عن عبد الأعلى، عن خالد الحذاء، عن شهر بن حوشب. بقصة الكمأة فقط .
وروى النسائي -أيضا-وابن ماجه من حديث محمد بن بشار، عن أبي عبد الصمد
عبد العزيز بن عبد الصمد، عن مطر الوراق، عن شهر: بقصة العجوة عند النسائي،
وبالقصتين عند ابن ماجه .
وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة فإنه لم يسمعه منه، بدليل ما رواه النسائي في الوليمة من سننه، عن علي بن الحسين الدرهمي
عن عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد
الرحمن بن غَنْم، عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم
يذكرون الكمأة، وبعضهم يقول جدري الأرض، فقال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" .
وروي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن شهر بن حوشب، عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري، قالا قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم" .
قال
النسائي في الوليمة أيضا: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا
شعبة، عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد وجابر، رضي
الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" . ثم رواه -أيضا-، وابن ماجه من طرق، عن الأعمش، عن أبي بشر، عن شهر، عنهما، به .
وقد رويا -أعني النسائي وابن ماجه-من حديث سعيد بن مسلم كلاهما عن الأعمش، عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، زاد النسائي: [وحديث] جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" .
ورواه ابن مردويه، عن أحمد بن عثمان، عن عباس الدوري، عن لاحق بن صواب عن عمار بن رزيق عن الأعمش، كابن ماجه.
وقال ابن مردويه أيضا: حدثنا أحمد بن عثمان، حدثنا عباس الدوري، حدثنا الحسن
بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد
الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي سعيد الخدري، قال: خرج علينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم وفي يده كمآت، فقال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين".
وأخرجه النسائي، عن عمرو بن منصور، عن الحسن بن الربيع ثم [رواه] ابن مردويه. رواه أيضا عن عبد الله بن إسحاق عن الحسن بن سلام، عن عبيد الله بن موسى، عن شيبان عن الأعمش به، وكذا رواه النسائي عن أحمد بن عثمان بن حكيم، عن عبيد الله بن موسى [به] .
وقد روي من حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه كما قال ابن مردويه:
حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا حمدون بن أحمد، حدثنا حوثرة بن أشرس، حدثنا حماد، عن شعيب بن الحبحاب عن أنس: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تدارؤوا
في الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فقال بعضهم: نحسبه
الكمأة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن وماؤها شفاء
للعين، والعجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم" .
وهذا الحديث محفوظ أصله من رواية حماد بن سلمة. وقد روى الترمذي والنسائي من طريقه شيئاً من هذا، والله أعلم .
[وقد]
روي عن شهر، عن ابن عباس، كما رواه النسائي -أيضًا-في الوليمة، عن أبي بكر
أحمد بن علي بن سعيد، عن عبد الله بن عون الخَرّاز، عن أبي عبيدة الحداد،
عن عبد الجليل بن عطية، عن شهر، عن عبد الله بن عباس، عن النبيّ صلى الله
عليه وسلم قال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" .
فقد اختلف -كما ترى فيه-على شهر بن حوشب، ويحتمل عندي أنه حفظه ورواه من
هذه الطرق كلها، وقد سمعه من بعض الصحابة وبلغه عن بعضهم، فإن الأسانيد
إليه جيدة، وهو لا يتعمد الكذب، وأصل الحديث محفوظ عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، كما تقدم من رواية سعيد بن زيد.
وأما السلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: السلوى طائر شبيه بالسُّمَّانى، كانوا يأكلون منه.
وقال السدي في خَبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: السلوى: طائر يشبه السُّمَّانَى.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عبد الصمد بن
عبد الوارث، حدثنا قرّة بن خالد، عن جهضم، عن ابن عباس، قال: السلوى: هو
السمَّانى.
وكذا قال مجاهد، والشعبي، والضحاك، والحسن، وعكرمة، والربيع بن أنس، رحمهم الله.
وعن عكرمة: أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور، أو نحو ذلك.
وقال قتادة: السلوى من طير إلى الحمرة، تحشُرها عليهم الريحُ الجنَوبُ.
وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده،
حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه.
وقال وهب بن منبه: السلوى: طير سمين مثل الحمام، كان يأتيهم فيأخذون منه
من سبت إلى سبت. وفي رواية عن وهب، قال: سألَتْ بنو إسرائيل موسى عليه
السلام، اللحم، فقال الله: لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض، فأرسل عليهم
ريحًا، فأذرت عند مساكنهم السلوى، وهو السمانى مثل ميل في ميل قيدَ رمح إلى السماء فخبَّؤوا للغد فنتن اللحم وخنـز الخبز.
وقال السدي: لما دخل بنو إسرائيل التيه، قالوا لموسى، عليه السلام: كيف
لنا بما هاهنا؟ أين الطعام؟ فأنـزل الله عليهم الَمنّ فكان يسقط على الشجر
الزنجبيل، والسلوى وهو طائر يشبه السمانى أكبر منه، فكان يأتي أحدهم فينظر
إلى الطير، فإن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه، فقالوا: هذا
الطعام فأين الشراب؟ فَأُمِر موسى فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت
منه اثنتا عشرة عينًا، فشرب كل سبط من عين، فقالوا: هذا الشراب، فأين
الظل؟ فَظَلَّل عليهم الغمام. فقالوا: هذا الظل، فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم
تطول معهم كما يطول الصبيان، ولا يَنْخرق لهم ثوب، فذلك قوله تعالى: (
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنـزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوَى ) وقوله وَإِذِ
اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ
فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ
مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60].
وروي عن وهب بن منبه، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي.
وقال سُنَيْد، عن حجاج، عن ابن جُرَيْج، قال: قال ابن عباس: خُلق لهم في التيه ثياب لا تخرق
ولا تدرن، قال ابن جريج: فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم
فسد، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح
فاسدًا.