الجزء الخامس من تفسير سورة النحل
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة النحل
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الجزء الخامس من تفسير سورة النحل
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ
دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ
مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى
الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ
(35)
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ
وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
(36)
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
(37) < 4-570 >
يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الشرك واعتذارهم محتجين
بالقدر، في قولهم: ( لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ
شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ )
أي: من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك، مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من
تلقاء أنفسهم، ما لم ينـزل الله به سلطانا.
ومضمون كلامهم: أنه لو كان تعالى كارهًا لما فعلنا، لأنكره علينا بالعقوبة ولما مكنا
منه. قال الله رادًا عليهم شبهتهم: ( فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا
الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) أي: ليس الأمر كما تزعمون أنه لم يعيره عليكم ولم
ينكره، بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار، ونهاكم عنه آكد النهي، وبعث في كل
أمة رسولا أي: في كل قرن من الناس وطائفة رسولا وكلهم يدعو إلى عبادة الله، وينهى
عن عبادة ما سواه: ( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ )
فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك، منذ حدث الشرك في بني آدم، في
قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض إلى
أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق
والمغارب، وكلهم كما قال الله تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ
[الأنبياء: 25] ، وقال تعالى:
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ
[الزخرف: 45] ، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ ) فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: ( لَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ) فمشيئته تعالى الشرعية
منتفية ؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، وأما مشيئته الكونية، وهي تمكينهم من ذلك قدرا، فلا حجة لهم فيها لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك حجة بالغة وحكمة قاطعة.
ثم إنه تعالى قد أخبر أنه عير عليهم، وأنكر
عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل؛ فلهذا قال: ( فَمِنْهُمْ مَنْ
هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي
الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) أي: اسألوا
عما كان من أمر من خالف الرسل وكذب الحق كيف
دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا
[محمد: 10] ،
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ
[الملك: 18] .
ثم أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن حرصه على هدايتهم لا ينفعهم، إذا كان الله قد أراد إضلالهم، كما قال تعالى:
وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
[المائدة: 41] ، وقال نوح لقومه:
وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ
[هود: 34] ، وقال في هذه الآية < 4-571 >
الكريمة: ( إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ) كما قال تعالى:
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ
فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
[الأعراف: 186] ، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ
[يونس: 96 ، 97] .
فقوله: ( فَإِنَّ اللَّهَ ) أي: شأنه وأمره أنه ما شاء كان وما لم يشأ
لم يكن؛ فلهذا قال: ( لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ) أي: من أضله فمن الذي
يهديه من بعد الله؟ أي: لا أحد ( وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ) أي:
ينقذونهم من عذابه ووثاقه،
أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
[الأعراف: 54] .
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ
يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ
(38)
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ
(39)
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
(40)
يقول تعالى مخبرا عن المشركين: أنهم حلفوا فأقسموا ( بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ ) أي: اجتهدوا في الحلف وغلظوا الأيمان على أنه ( لا
يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ) أي: استبعدوا ذلك، فكذبوا
الرسل في إخبارهم لهم بذلك، وحلفوا على نقيضه. فقال تعالى مكذبا لهم وردا
عليهم: ( بَلَى ) أي: بلى سيكون ذلك، ( وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا ) أي: لا بد منه، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) أي: فَلِجَهْلهم يخالفون الرسل ويقعون في الكفر.
ثم ذكر تعالى حكمته في المعاد وقيام الأجساد يوم التناد، فقال: (
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ) أي: للناس ( الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) أي: من كل
شيء، و
لِيَجْزِيَ
الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى
[النجم : 31] ، ( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا
كَاذِبِينَ ) أي: في أيمانهم وأقسامهم: لا يبعث الله من يموت؛ ولهذا يدعون
يوم القيامة إلى نار جهنم دعا، وتقول لهم الزبانية: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
[الطور : 14 -16] .
ثم أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: "كن"، فيكون، والمعاد من ذلك إذا أراد كونه فإنما يأمر به مرة واحدة، فيكون كما يشاء، كما قال
وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ
[القمر : 50]
وقال:
مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ
[لقمان : 28] ، وقال في هذه الآية الكريمة:
( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )
[النحل : 40] ، أي: أن يأمر به دفعة واحدة فإذا هو كائن، < 4-572 >
كما قال الشاعر :
إذا مــا أراد اللــه أمــرًا فإنمـا | | يقــول لــه: "كن", قولـة فيكـون |
وقال ابن أبي حاتم: ذكر
الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيْج، أخبرني عطاء: أنه
سمع أبا هريرة يقول: قال الله تعالى: سَبَّني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن
يسبني، وكذبني ولم يكن ينبغي له أن يكذبني، فأما تكذيبه إياي فقال: (
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ
يَمُوتُ ) قال: وقلت: ( بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) وأما سبه إياي فقال:
إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ
[المائدة : 73] ، وقلت: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ
[سورة الإخلاص] .
هكذا ذكره موقوفا، وهو في الصحيحين مرفوعا، بلفظ آخر .
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
(41)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
(42)
يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته، الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان، رجاء ثواب الله وجزائه.
ويحتمل أن يكون سبب نـزول هذه الآية الكريمة في مُهاجرة الحبشة الذي
اشتد أذى قومهم لهم بمكة، حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة،
ليتمكنوا من عبادة ربهم، ومن أشرافهم: عثمان بن عفان، ومعه زوجته رقية بنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعفر بن أبي طالب، ابن عم الرسول وأبو سلمة بن عبد الأسد
في جماعة قريب من ثمانين، ما بين رجل وامرأة، صديق وصديقة، رضي الله عنهم
وأرضاهم. وقد فعل فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والآخرة فقال: (
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ) قال ابن عباس والشعبي،
وقتادة: المدينة. وقيل: الرزق الطيب، قاله مجاهد.
ولا منافاة بين القولين، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم الله خيرًا منها في الدنيا، فإن من ترك شيئًا لله عوضه الله بما هو خير له منه وكذلك وقع فإنهم مكن الله لهم في البلاد < 4-573 >
وحكمهم على رقاب العباد، فصاروا أمراء حكاما، وكل منهم للمتقين إماما،
وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا،
فقال: ( وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ ) أي: مما أعطيناهم في الدنيا ( لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ ) أي: لو كان المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادخر
الله لمن أطاعه واتبع رسوله؛ ولهذا قال هُشَيْم، عن العوام، عمن حدثه؛ أن
عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أفضل، ثم قرأ هذه الآية: ( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) .
ثم وصفهم تعالى فقال: ( الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) أي: صبروا على أقل من آذاهم من قومهم، متوكلين على الله الذي أحسن لهم العاقبة في الدنيا والآخرة.
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة النحل
جزاك الله خيرا ونفعك بالعلم
الزعيم- المـديـر العـــام
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 7554
M.AYMAN- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 1898
تاريخ الميلاد : 13/10/1985
العمر : 39
رد: الجزء الخامس من تفسير سورة النحل
شكرا على الموضوع
لا تبخل علينا
لا تبخل علينا
aaaa- عضو نشيط
- احترام القوانين :
عدد المساهمات : 768
تاريخ الميلاد : 13/10/1983
العمر : 41
مواضيع مماثلة
» الجزء الخامس عشر والأخير من تفسير سورة النحل
» الجزء السابع من تفسير سورة النحل
» الجزء الثامن من تفسير سورة النحل
» الجزء التاسع من تفسير سورة النحل
» الجزء العاشر من تفسير سورة النحل
» الجزء السابع من تفسير سورة النحل
» الجزء الثامن من تفسير سورة النحل
» الجزء التاسع من تفسير سورة النحل
» الجزء العاشر من تفسير سورة النحل
ملتقى الجزائريين والعرب :: المنتدى العام :: الركن الإسلامي :: ملحق تفسير القرآن كاملا لابن كثير
:: تفسير سورة النحل
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى